الفتيات بطبيعتهن رقيقات المشاعر، فكيف إذا اختلطت رقة أحاسيسهن مع ما يختلج بالنفوس من مشاعر عظيمة عند أداء فريضة الحج؟ والتي يشعر الإنسان بتأديتها باكتمال الدين وتأدية ما أمر الله من العبادات والطاعات، وعلى الأقل اكتمال أركان الإسلام الخمسة.
فبين مشاعر الحب الأخاذ لهذه الأماكن المقدسة، والقلوب التي تهفو إلى المقدسات وتكاد تنفطر حبا وهياما إلى كل بقعة في الحرم، فضلا عن الأجر الوفير الذي ينتظر كل من تهفو روحه وتطأ قدماه الأرض المقدسة، ننقل لكنّ في هذا التحقيق بعض المشاعر الفياضة لفتيات حججن إلى بيت الله ويتحدثن عن مشاعرهن.
للحج أسرار كثيرة لا يدركها إلا من تفكر فيها:
مودة قمصاني من جدة قالت: "زرت مكة والحرم الشريف مرات كثيرة، ولكن عندما ذهبت لمكة في الحج و كأنني أزور مكة لأول مرة".
قالت مودة: "درسنا في المدرسة عن الحج ومناسكه العظيمة والحكمة منه، لكن لم تتجل في قلبي عظمة هذه الفريضة إلا بعد أديتها، فكلما تنقلنا من مكان لمكان، و أدينا نسك من المناسك؛ أشعر أن للحج أسرارا كثيرة لا يدركها إلا من تفكر فيها. يكفي منظر اللون الأبيض الذي يعم المكان، و كأن الناس تريد أن تتجرد من ذنوبها كما تجردت من ثيابها، وترجع بصحف أعمالها بيضاء كالإحرام الأبيض".
اليوم أتخلص من الشيطان الذي طالما وسوس لي:
وتتابع القمصاني قائلة: "في جمع الحجارة للاستعداد لرمي الجمرات معاني استشعرتها فعلا مع كل حصى أجمعها أو أرمي بها، وكأني أقول لنفسي اليوم أتخلص من الشيطان الذي طالما وسوس لي بالمعاصي، ولن أستمع له مرة أخرى فهذا الشيطان الذي طالما سيطر علي وعلى أفكاري اليوم نرجمه بالحجارة.
منظر العدد الغفير من الحجاج على اختلاف أشكالهم وألوانهم الغني والفقير، الصحيح والمريض؛ جعلني أفكر في أشياء كثيرة، وأحس بتقصيري، فكم فوت عمرة في رمضان و الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى بها في الحديث الشريف: (عمرة في رمضان تقضي حجة معي)رواه البخاري، وأنا صحيحة سليمة لا يفصل بيني وبين الحرم الشريف أكثر من مائة كيلومتر! بدأت أتذكر أعمال كثيرة يسيرة وأجرها عظيم نغفل عنها، وبعض الحجيج أتى من بلاد بعيدة، وأنفق كل ما عنده وتناسى عجزه ومرضه كي يؤدي فريضة الحج".
في الحج تعلمت الكثير:
ندى روزي تذكرت الحج وما فيه من مواقف لا تنسى أبدا، قالت: "الحياة كلها مجموعة من المواقف، يتعلم منها الإنسان ويستفيد وفي الأيام القليلة التي قضيتها في الحج تعلمت الكثير" .
وأضافت "أتذكر عندما حججت لأول مرة ضمن حملة للحج لم أتوقع هذه المشقة، على الرغم من الإمكانات المتوفرة ولم أكن أتوقع أنني سأفتقد فراشي الوثير وطعامي المعتاد، عليه لأعيش أيام في جو آخر غير التي اعتدت عليها، صبرت وتحملت الجو الحار والزحام الشديد برضا لاكتساب الأجر والثواب من عند الله، وتذكرت قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) وما يسليني أني كنت و أخوات لي في الحملة نتعاون و نقوم ببعض الأعمال سويا ونصلي جماعة في جو إيماني رائع".
وقالت عن يوم عرفة:"وفي يوم عرفة تجلت نعمة من أعظم النعم، وهي مغفرة الله سبحانه وتعالى فالإنسان يستطيع أن يستشعر مدى الراحة والطمأنينة التي يشعر بها الإنسان عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى يباهي به ملائكته ويكرمه بالمغفرة ويرجعه كما ولدته أمه عندها تهون كل الصعاب"
تصدقوا عن حقوقكم المعنوية:
تقول سماح عبد الله: "أتيحت لي تأدية هذه الفريضة وعمري لم يتعد 16 عاما، فقد كنت أحلم بتأديتها، ووصل لي هذا الشعور من أمي، أعطاها الله الصحة، فقد أدمنت الحج إلى بيته".
وتضيف: "يمكنني الحديث عن الحالة التي تعرضت لها عندما حججت، ولكن من الصعب وصف مشاعري فدعيني أقول لك أفضل مكان في الأرض بعد الجنة هذا المكان الطاهر، كنت أشعر أنني في الجنة ورياضها الغناء، وهذا هو السبب وراء إدمان بعض المسلمين لتأدية هذه الفريضة؛ فالمشاعر جياشة والروحانيات عالية".
تصف بعض مشاعرها بقولها: "أشعر أنني ولدت لتوي، وأن ذنوبي قد غسلت جميعًا، وأشعر أنني بربوة في الجنة، وأنتظر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ومرات أتخيل أن الصحابة يحجون معي، وأنني ربما أرى بعضهم بجواري، فأنا أستشعر ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم عند تأدية المناسك".
وتنصح سماح كل من يريد أن يحج بالتصدق عن حقوقه المعنوية، ويسامح كل من أساء إليه، ويتصدق بذلك إرضاء لله عز وجل، فهذا يولد شعور رائع يجعل المرء دائما في حالة فرح وسرور دائم، وشعور مسبق بقبول الله للعمل، مع ضرورة أن يطلب الصفح من الناس، وأن يرد الحقوق والمظالم لأصحابها إن وجدت.
فريضة الحج مكافأة وعطاء الله للعبد:
وتقول سلوى حامد ـ وتتساقط الدموع من وجنتيها ـ: "فريضة الحج مكافأة وعطاء الله للعبد، فهذه الفريضة تسرية عن القلب فما لا يشعره المسلم في باقي الفرائض، يشعر به عند تأدية هذه الفريضة العظيمة".
وتضيف: "مشاعر الحب تختلط بمشاعر الإجلال والعظمة التي يشعر بها الإنسان تجاه ربه، وهي مشاعر عظيمة يستحضرها الإنسان في حياته دائما، ولكن شعوره بها يتزايد في هذه الأيام وبخاصة عند تأدية الفريضة".
من المشاعر الأخرى التي تحكي عنها سلوى، أنها تشعر بصفاء في القلب لا تكاد تشعر به إلا بمواقف قليلة، ويعتبر الحج شاهدا حقيقيا على تأثر الإنسان بكل مكوناته بدءا من البدن، حتى العقل والقلب والمشاعر فيستشعر العبد أنه قد غفر له بإذن الله.
وتذكر أنها قابلت نساء وفتيات كثيرات كن يطفن البيت ويبكين بكاء شديدا حبا في المكان المقدس، واستشعارا بالفريضة العظيمة وبموضع أقدام الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أطهر الخلق.
كنت أشعر أني في الجنة:
وتقول سمية على: "رزقني الله بحجة منذ 5 سنوات، فمشاعري لم تكن ملكي وقتها، ولكن ما يمكن أن أقوله في ذلك أنني كنت أشعر بأنني لست في الدنيا وإنما في الجنة".
وأضافت: "كنت أشعر بقرب الله مني، وبقربي من الله وكنت أشعر بالمعية فضلا عن شعوري بوحدة المسلمين، وهذا الشعور مفتقد على أرض الواقع ولا يشعر به المسلمين إلا في هذا المكان، فلو أن كل مسلم كبر ووحد في صوت متوحد لقامت الدنيا ولم تقعد تعظيما وإجلالا لهؤلاء المسلمين".
وختمت كلامها بنصيحة لمن يقدر على الحج ويؤخر تأديته للفريضة بأنه من الأفضل تأدية هذه الفريضة في سن الشباب حيث يكون مفعمًا بالصحة والحيوية، وليس كما يفعل الناس بتأجيل هذه الفريضة حتى يغزو الشيب المفرق فكلما بكر الإنسان كلما شعر بسعادة، وكلما ظهرت نتيجتها عليه في الدنيا منتظرًا وعد الله في الآخرة.
سعادة لا توصف:
هنادي حبيب من مدينة غزة، لم تشعر بفرحة على مدار سنوات عمرها تضاهي تلك التي شعرت بها يوم أن وقعت عليها القرعة للفوز برحلة الحج قبل عامين، هذه الفتاة عانت من ظروف غزة الخاصة، فقد سجلت لأكثر من مرة لأداء العمرة والحج وتم الحصول على التأشيرة إلا أن المعابر المغلقة في قطاع غزة بأمر الاحتلال حرمتها من الخروج لأداء العمرة ثلاث مرات ولأداء فريضة الحج مرتين.
تقول الفتاة: "صبرت واحتسبت ذلك عند الله، وكان الجزاء الحسن منه جل وعلا أن منَّ علي برحلة الحج قبل عامين، كانت فرحتي بعد ثلاث سنوات من المحاولات الفاشلة فرحة غامرة لا تستطيع كلمات الفرح والسعادة التعبير عنها ولا وصفها". وتتابع: "إن فرحتها قادتها إلى الشعور أن خروجها للحج ليس إلا حلمًا، فكانت تخبر أهلها أنها لن تصدق أن الحلم حقيقة إلا حين ترى بأم عينها الحرم بعد الوصول إلى الديار الحجازية".
وأضافت أنها حينها رأت الحرم شاخصًا أمامها كانت فرحتها لا توصف، ومن شدتها لم تستطع أن تحبس دموعها، وتستمر قائلة:"هناك لا مجال إلا للإيمانيات والروحانيات تجدها تغزو قلبك، تنقلك إلى عالم من مشاعر المصالحة مع النفس"، وتتابع: "إنها حين كانت ترى الحجاج من مختلف الألوان والأجناس والأعمار خاصة كبار السن والمرضى منهم والعجزة تشعر بعظمة الدين الإسلامي، واجتماع ملايين البشر على كلمات التلبية الواحدة للواحد القهار".
تصمت الفتاة قليلًا مستعيدة بعضًا من ذكريات الحج ونفحاته الإيمانية، ومن ثمَّ تشير الفتاة هنادي حبيب إلى الفوائد العظيمة التي يجنيها الإنسان من أداء فريضة الحج، فهو بها يتقرب إلى الله أكثر فأكثر بالدعاء والذكر والصلاة والصدقة ليفوز بوعد الجنان، كما أنه إذا ما أداها دون انتقاص أو مفسدات تكون تكفيرا للذنوب والآثام التي جناها على امتداد عمره؛ فيخرج منها كما ولدته أمه.
وشددت على ضرورة أن يقوم الإنسان بالفريضة في ريعان شبابه؛ ليتمكن من التمتع بكل ركن من أركانها ولا ينتظر إلى أن يهن العظم من جسده، فلا يملك القيام بشعائرها على الوجه المطلوب ولا يتمتع بلذة مشاعرها.
ميلاد جديد:
وتؤكد سها - منتصف العشرينيات من عمرها - والتي منَّ الله عليها بأداء فريضة الحج مع والديها في ريعان شبابها أن رحلة الحج أجمل رحلات العمر، ففيها يولد الإنسان من جديد على حد تعبيرها، ويشعر بمزيد من الحنين لذكريات الرحلة ومواقف السعي والطواف وما جنته منها من فوائد عظيمة إيمانيًا وروحيًا.
تتحدث الفتاة قائلة: "بمجرد فوزي بقرعة الحج؛ شعرت أن الله الكريم قد اصطفاني من بين ملايين البشر لأتقرب إليه"، وتضيف قائلة: "إن ذلك الاصطفاء ينقلها إلى حالة روحانية تجعلها أقرب إلى طاعة الله، وأبعد ما تكون عن معصيته".
وتستكمل أن أجواء الحرم والديار المقدسة تعيدك إلى التفكر في عمل الأنبياء رضوان الله عليهم وصلاته وسلامه.
مؤكدة أنها كانت في كل ركن تطأ به أقدامها في الحرم تستشعر عظمة أعمال الأنبياء، وتستطرد قائلة: "إن أكثر منطقة تأثرت فيها هي السعي بين الصفا والمروة، فهناك استشعرت لهفة وخوف السيدة هاجر رضي الله عنها حين كانت تبحث عن شربة ماء لها أو لابنها، لافتة إلى أنها لم تمنع عيناها من البكاء وقتها، وكان بكائها يغسل ما اقترفته من سوء، ويجعلها تتشبث أكثر بهدي نساء المسلمين وأمهات المؤمنين في تعاملاتهن وفي أخلاقهن".
وتضيف الفتاة بصوت تقطع بين البكاء والحنين:"إنها لم تشعر أبدًا بصعوبة السعي كونها استشعرت موقف السيدة هاجر وكون اللسان لا ينطق إلا بما يطيب من ذكر الله في الصلاة والتسبيح، داعية الفتيات إلى اغتنام الشباب بما ينفع بالسعي لأداء فريضة الحج والتمتع بكافة أركانها عملًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم] اغتنم خمس قبل خمس: حياتك قبل موتك، و شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك[رواه أحمد في الزهد، و الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وحسنه العراقي في الإحياء، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
شارك في هذا التحقيق: غادة بخش من جدة، سامية مشالي من القاهرة، ميرفت عوف من فلسطين
المصدر: موقع لها أون لاين